فصل: تفسير الآيات (45- 47):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (45- 47):

{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)}
يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر عبادنا}، وقرأ المكي: عبدنا، إما على إرادة الخبر، وإما أن يريد إبراهيم وحده لشرفه، ثم عطف عليه من بعده، ثم بيَّنهم بقوله: {إِبراهيمَ وإِسحاقَ ويعقوبَ أُولي الأيدي والأبصارِ} أي: أُولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين، أو: أُولي الأعمال الجليلة، والعلوم الشريفة. فعبَّر بالأيدي عن الأعمال؛ لأن أكثرها تُباشر بها، وبالأبصار عن المعارف؛ لأنها أقوى مبادئها. وفيه تعريض بالجهلة الباطلين، كأنهم كالزّمنى والعماة، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما.
{إِنا أخلصناهم بخالصةٍ} أي: جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن، لا شوب فيها، هي {ذِكْرَى الدَّارِ} أي: تذكر للدار الآخرة على الدوام، فإنَّ خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها، وذلك لأن مطمح أنظارهم، ومسرح أفكارهم، في كل ما يأتون وما يذرون، جوار الله عزّ وجل، والفوز بلقائه، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا في الآخرة، فمطلبهم إنما هو الجوار والرؤية. لا مجرد الحضور في تلك الدار، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
ليسَ سُؤلي من الجِنَان نَعيماً ** غيرَ أَنِّي أريدُها لأراكَ

قال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: {إِنا أخلصناهم} بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة، ودعاء الناس إليها، أي: وتزهيدهم في الدنيا، كما هو دَيدن الأنبياء والرسل. وهذا قول قتادة، أو: إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك. وهذا قول مجاهد. اهـ. قلت: مرتبة الرسل تنافي العمل لحرف، فإنَّ أولياء هذه الأمة تحرّروا من العمل للحرف، بل عبدوا الله شكراً ومحبة وعبودية، لا طمعاً في شيء، فكيف بأكابر الرسل. وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار في الحقيقة، وإنما الدنيا معبر إليها.
ومَن قرأ بالإضافة، فمن إضافة الشيء إلى ما بيَّنَهُ؛ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، و{ذكرى}: مصدر مضاف إلى المفعول، أي: بإخلاصهم ذكرى الدار. وقيل: خالصة بمعنى خلوص، وهي مضافة إلى الفاعل، أي: بأن خلصت لهم ذكرى الدار، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشيء آخر، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب.
{وإِنهم عندنا لمن المصْطَفَيْنَ} المختارين من بين أبناء جنسهم {الأخْيارِ}: جمع خيّر، أو: خيْر، على التخفيف، كأموات جمع ميّت، أو: ميْت.
الإشارة: أولياء هذه الأمة أي: العارفون بالله يزاحمون الأنبياء والرسل في جلّ المراتب، قال صلى الله عليه وسلم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي: العلماء بالله؛ فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة، بل حطُّوا هممهم على الله، ولم يقصدوا شيئاً سواه، خلعوا النعلين عن الكونين، وركضوا إلى المكوِّن، وكانت لهم اليد الطولى في عمل الطاعات عبوديةً، والبصيرة النافذة في مشاهدة الربوبية، هذه طريقهم، وهذا مذهبهم، ومَن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم. جعلنا الله ممن خرط في سلكهم.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)}
يقول الحق جلّ جلاله: {واذكر إِسماعيلَ}، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه؛ للإشعار بعلو شأنه، واستقلاله بالشرف والذكر، ولعراقته في الصبر، الذي هو المقصود بالتذكير، وهو أكبر بنيه. {و} اذكر {الْيَسَعَ} بن خطوب بن العجوز، استعمله إلياس على بني إسرائيل، ثم استنبئ. وال فيه، قيل: للتعريف، وأصله: يسع، وقيل: زائدة؛ لأنه عجمي علَم، وقيل: هو يوشع، {وذا الكفلِ} وهو ابن عم اليسع، أو: بشر بن أيوب. واختلف في نبوته وسبب لقبه، فقيل: فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل، خوفاً من القتل، فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفل بعبادة رجل صالح كان في وقته. {وكلٌّ} أي: وكلهم {مِّنَ الأخيارِ} المشهورين بالخيرة.
الإشارة: إنما كان هؤلاء مصطفين أخياراً بالوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والصبر على طاعة الملك المعبود، وتحمُّل ما يقرب إلى حضرة الشهود. فكل مَن اتصف بهذه الخصال كان من المُصْطَفَين الأخيار.

.تفسير الآيات (49- 54):

{هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)}
قلت: {جناتِ}: عطف بيان لحُسن مآب، أو: بدل. و{مفتَّحة}: حال من {جنات عدن}. والعامل فيها: الاستقرار في {للمتقين}. و{الأبواب}: نائب الفاعل لمُفتَّحة. والرابط بين الحال وصاحبها: إما ضمير مقدّر، كما هو رأي البصريين، أي: الأبواب منها، أو: الألف واللام القائم مقامه، كما هو رأي الكوفيين، أي: أبوابها. و{متكئين}: حال من ضمير {لهم}، والعامل فيه: {مفتحة}. و{يَدْعُون}: إما استئناف، أو: حال مما ذكر، أو: من ضمير {متكئين}.
يقول الحق جلّ جلاله: {هذا} أي: هذا الذي ذكر من الآيات الناطقة بمحاسن الأنبياء والرسل، {ذِكْرٌ} أي: شَرَفٌ لهم، وذِكْر جميل يُذكرون به أبداً، أو: نوع من الذكر، أي: القرآن. وآيٌ منه مشتمل على أنباء الأنبياء، أو: تذكير ووعظ؛ لأنه يذكر أحوال الأكابر ليقتدي بهم، أو: ذكر مَن مضى الأنبياء، أو: شرف لك؛ لأنه معجزة لك يدلّ على صدقك، {وإِنَّ للمتقين} أي: جنس المتقين، أو: مَن ذكر مِن الرسل، عبّر عنهم بالمتقين مدحاً لهم بالتقوى؛ إذ هي غاية الكمال. {لَحسنْ مآبٍ}؛ مرجع.
ثم بيَّنه بقوله: {جنات عدنٍ}؛ إقامة {مفتحةً لهم الأبوابُ} فإذا جاؤوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب، {متكئينَ فيها} على أرائكهم في حِجالهم، {يَدْعُون فيها بفاكهةٍ كثيرة} مما يشتهون {وشرابٍ} كثير كذلك، حذف اكتفاء بالأول، والاقتصار على دُعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكُّه والتلذُّذ، دون التغذي والحاجة، فإنه لا تَحلُل في الأبدان ولا حاجة.
{وعندهم} حور {قاصِراتُ الطَّرْفِ} على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، {أترابٌ}؛ لِداتٌ، أسنانُهنّ كأسنانهم. قيل: ثلاث وثلاثون سنة لكل واحد، أو: مستويات في الحُسن والجمال والشكل؛ لأن التحابّ بين الأقران أبلغ وأثبت، وقيل: أتراب بعضهن لبعض، لا عجوز فيهن ولا صبية. واشتقاقه من التراب، فإنه يمسَّهن في وقت واحد.
{هذا ما تُوعدون ليوم الحساب}، قال ابن عرفة: اللام للتوقيت، أي: عنده، أو: للتعليل، فإن الحساب علَّة للوصول إلى الجزاء. وقرأ المكي والبصري بياء الغيب، ليُوافق ما قبله، والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم. {إِنَّ هذا} الذي ذكر من ألوان النعيم والكرامات {لَرِزْقُنا} أعطيناكموه، {ما له من نفاذٍ}؛ من انقطاع وتمام أبداً.
الإشارة: كل مَن توجه إلى الله بكليته، واتصف بمحاسن الأخلاق، كان له ذكر وشرف في الدنيا، وكرامة في العُقبى، بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

.تفسير الآيات (55- 64):

{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآَبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)}
قلت: {هذا} خبر، أي: الأمر هذا، أو: مبتدأ؛ أي: هذا كما ذكر، وهو من الاقتضاب الذي يقرب من التخلص، كقوله بعد الحمد: أما بعد. قال السعد: هو من فصل الخطاب، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص. قال: وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ...} [ص: 49]. اهـ. قال الطيبي: هو من فصل الخطاب، على التقدير الأول، لا الثاني. اهـ. أي: إذا كان خبراً عن مضمر، لا ما إذا ذكر الخبر.
يقول الحق جلّ جلاله: {هذا} أي: الأمر هذا، {وإِنَّ للطاغين لشرَّ مآبٍ}؛ مرجع {جهنَّمَ يصلونها}؛ يدخلونها، حال من جهنم، {فبئس المِهادُ}: الفراش، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم، والمخصوص محذوف، أي: جهنم.
{هذا فليذوقوه} أي: ليذوقوا هذا فليذوقوه، كقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] أو: العذاب هذا فليذوقوه، وهو {حميمٌ وغسَّاق}... إلخ، أو: {هذا}: مبتدأ، و{حميم وغساق}: خبر، وما بينهما اعتراض، والغساق: ما يَغسَق، أي: يسيل من صديد أهل النار، يقال: غَسَقت العين؛ إذا سال دمعها. وقيل: الحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده. قيل: «لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق» وقيل: الغساق: عذاب لا يعلمه إلا الله. وهو بالتخفيف والتشديد، قرئ بهما.
{وآخَرُ} أي: وعذاب آخر، أو: مذوق آخر، {من شَكْلِه}؛ من مثل العذاب المذكور. وقرأ البصري: {أُخَرُ} بالجمع، أي: ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاظة، {أزواجٌ} أي: أصناف، وهو خبر لأخر، أو: صفة له، أو: للثلاثة.
{هذا فوج مُّقْتَحِمٌ معكم}، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة. والاقتحام: الدخول في الشيء بشدة، أو: من كلام الطاغين بعضهم من بعض. {لا مرحباً بهم}، هو من تمام كلام الخزنة، على الأول، أو: من كلام الطاغين، دعاء منهم على أتباعهم. يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به. مرحباً، أي: وجدت مكاناً رَحْباً، لا ضيقاً، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء، فتقول: لا مرحباً. و{بهم}: بيان للمدعو عليهم، {إِنهم صالُوا النارِ} أي: داخلوها. وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم. وقيل: {هذا فوج...} إلخ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة. و{لا مرحباً بهم...} إلخ، من كلام الرؤساء.
{قالوا} أي: الأتباع، {بل أنتم لا مرحباً بكم} أي: الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به، وعلّلوا ذلك بقوله: {أنتم قدمتموه لنا} أي: إنكم دعوتمونا للكفر، فتبعناكم، فقدمتمونا به للعذاب، {فبئس القرارُ} أي: بئس المقر جهنم، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم. {قالوا} أي: الأتباع، معرَّضين عن خصومتهم، متوجهين إلى الله: {ربَّنا مَن قدَّم لنا هذا فزِدْهُ عذاباً ضعفاً} أي: مضاعفاً.
{في النار} أو: ذا ضعف، ومثله قوله: {رَبَّنَا هَؤُلآَءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} [الأعراف: 38]، وهو أن يزيد على عذابه مثله.
{وقالوا} أي: الرؤساء: {ما لنا لا نرى رجالاً}، يعنون: فقراء المسلمين، {كنا نَعُدُّهُم} في الدنيا {من الأشرار}؛ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم، {أتَّخذناهم سِخْرِيّاً}، بهمزة الاستفهام، سقطت لأجلها همزة الوصل. والجملة: استئنافية، ومَن قرأ بالوصل فقط فالجملة: صفة ثانية لرجال، {أم زاغتْ}؛ مالت {عنهم الأبصارُ}، والمعنى على الاستفهام: أتخذناهم سخرياً وليسوا كذلك، فلم يدخلوا معنا النار فهم في الجنة، أم دخلوها معنا، ولكن مالت عنهم أبصارنا، فلا نراهم معنا؟ وعلى الاستخبار: ما لنا لا نرى رجالاً معنا في النار، كانوا عندنا أشراراً، قد اتخذناهم سخرياً نسخر بهم، ثم أضربوا وقالوا: بل زاغت عنهم الأبصار، فلا نراهم فيها، وإن كانوا معنا، أو: زاغت أبصارنا، وكلَّت أفهامنا عنهم، حتى خفي علينا مقامهم، وأنهم على الحق ونحن على الباطل، وما تبعناهم. ومَن قرأ {سُخريا} بالضم؛ فمن: التسخير والاستخدام. ومَن قرأ بالكسر، فمن: السخر، الذي هو الهزء. وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً، فراجعه.
{إِن ذلك} الذي حكى من أحوالهم {لَحَقٌّ} لابد من وقوعه ألْبتة، وهو {تخاصمُ أهلِ النار} فيها على ما تقدّم.
ولمّا شبَّه تفاوضهم، وما يجري بينهم من السؤال والجواب، بما يجري بين المتخاصمين، سمَّاه تخاصماً، وبأنَّ قول الرؤساء: {لا مرحباً} وقول الأتباع: {بل أنتم لا مرحباً بكم} من باب الخصومة لا محالة، فسمي التقاول كله تخاصماً؛ لاشتماله على ذلك.
الإشارة: كل مَن تعدى وطغى، ولم يتب، من المؤمنين، يرى شيئاً من أهوال الكفرة، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل، ويكون سكناه في أسفل الجنة، فيقول: ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار، أتخذناهم سخرياً، وهم كُبراء عند الله، رُفعوا عنه، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ فيُجابون: بأنهم رُفعوا مع المقربين، كانوا مشتغلين بنا، وكنتم منهم تضحكون. إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا، في كل حين، وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (65- 70):

{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قُلْ} يا محمد للمشركين: {إِنما أنا مُنذِر} من جهته تعالى، أُنذركم عذابه، {وما من إِلهٍ} في الوجود {إِلا اللهُ الواحدُ} الذي لا يقبل الشركة أصلاً، {القهَّارُ} لكل شيء سواه، {ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما} من المخلوقات، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها، {العزيزُ}؛ الذي لا يغلب {الغفارُ}؛ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء. وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد، والوعد للموحِّدين، والوعيد للمشركين، ما لا يخفى. وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة؛ لتقوية الإنذار.
{قل هو} أي: ما نبأتكم به من كوني رسولاً، وأنَّ الله واحد لا شريك له، {نبأٌ عظيمٌ}؛ وارد من جهته تعالى، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك. {أنتم عنه معرضون}؛ غافلون، وعن ابن عباس: النبأ العظيم: القرآن. وعن الحسن: يوم القيامة. وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل، له شأن خطير، لابد من الاعتناء به، أمراً وائتماراً.
{ما كان لِيَ من عِلْم بالملأِ الأعلى إِذْ يختصمون}، احتجاج على صحة نبوته، بأن ما ينبئ به عن الملأ الأعلى، واختصامهم، أمر غيبي، لم يكن له به علم قطّ، ثم علمه وأخبر به، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا، وهو الأخذ عن أهل العلم، ودراسة الكتب، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى. والملأ الأعلى هم الملائكة، وآدم، وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء، وكان اختصامهم: التقاول بينهم، كقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا...} [البقرة: 30] إلخ، وكقول إبليس: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ...} [الأعراف: 12 وص: 76] إلخ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات. وقيل: اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه، حتى يقضي الله ما شاء.
ورُوي في هذا حديث، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال له ربه عزّ وجل في النوم: «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، قال: اختصموا في الكفارات والدرجات، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وأما الدرجات؛ فإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والصلاة بالليل والناس نيام» رواه الترمذي.
و{إِذ يختصمون}: متعلق بمحذوف يقتضيه المقام؛ إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير: ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.
{إِن يُوحَى إِليَّ أَنَّما أنا نذير مبينٌ} أي: ما يُوحى إليَّ ما يوحى من الأمور الغيبية، التي من جملتها حال الملأ الأعلى، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل، أي: ما يوحى إليّ إلا هذا، وهو أن أُنذر وأُبلّغ، ولا أُفرط في ذلك، أي: ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده، وليس إليَّ غير ذلك.
وقرئ بكسر {إنما} على الحكاية، أي: إلا هذا القول، وهو: أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين، ولا أدّعي شيئاً آخر.
الإشارة: تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور؛ في توحيد الألوهية، بالتبري من الشرك الجلي والخفي. وهو مفاد قوله: {وما من إِله إِلا الله...} إلخ. وفي تصديق الواسطة، وهو النذير المبين، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم، وفي التصديق بما جاء به، وهو النبأ العظيم، على أيّ تفسير كان، إما القرآن، باتباعه، والتدبُّر في معانيه، أو: يوم القيامة، بالتأهُّب له، وجعله نُصب العين. وبالله التوفيق.